الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أو كادته رجاء أن يَمَل حبسه فيبذل نفسه.الثانية: قوله تعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ} يَسْجُنُنَّهُ في موضع الفاعل؛ أي ظهر لهم أن يسجنوه؛ هذا قول سيبويه.قال المبرّد: وهذا غلط؛ لا يكون الفاعل جملة، ولكن الفاعل ما دلّ عليه: {بَدَا} وهو مصدر؛ أي بدا لهم بَدَاءٌ؛ فحذف لأن الفعل يدلّ عليه؛ كما قال الشاعر: أي وحقّ الحقُّ، فحذف.وقيل: المعنى ثم بدا لهم رأيٌ لم يكونوا يعرفونه؛ وحذف هذا لأن في الكلام دليلًا عليه، وحذف أيضًا القول؛ أي قالوا: ليسجننه، واللام جواب ليمين مضمر؛ قاله الفرّاء، وهو فعل مذكَّر لا فعل مؤنث؛ ولو كان فعلًا مؤنثًا لكان يَسْجُنّانِّه؛ ويدلّ على هذا قوله: {لَهُمْ} ولم يقل لهنّ، فكأنه أخبر عن النسوة وأعوانهنّ فغلب المذكر؛ قاله أبو عليّ.وقال السّديّ: كان سبب حبس يوسف أن امرأة العزيز شكت إليه أنه شَهَّرها ونشر خبرها؛ فالضمير على هذا في: {لَهُمْ} للملك.الثالثة: قوله تعالى: {حتى حِينٍ} أي إلى مدّة غير معلومة؛ قاله كثير من المفسّرين.وقال ابن عباس: إلى انقطاع ما شاع في المدينة.وقال سعيد بن جُبَيْر: إلى ستة أشهر.وحكى الكِيَا أنه عَنَى ثلاثة عشر شهرًا.عِكْرمة: تسع سنين.الكَلْبيّ: خمس سنين.مقاتل: (سبع).وقد مضى في البقرة القول في الحين وما يرتبط به من الأحكام.وقال وهب: أقام في السجن اثنتي عشرة سنة.و{حتى} بمعنى إلى؛ كقوله: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} وجعل الله الحبس تطهيرًا ليوسف صلى الله عليه وسلم من هَمِّه بالمرأة.وكأن العزيز وإن عرف براءة يوسف أطاع المرأة في سجن يوسف.قال ابن عباس: عثر يوسف ثلاث عثرات: حين هَمّ بها فسجن، وحين قال للفتى: {اذكرني عِنْدَ رَبِّكَ} فلبث في السجن بضع سنين، وحين قال لإخوته: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} فقالوا: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}.الرابعة: أكره يوسف عليه السلام على الفاحشة بالسجن، وأقام خمسة أعوام، وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره؛ ولو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعًا.فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحًا فإنه يسقط عنه إثم الزنى وحدّه.وقد قال بعض علمائنا: إنه لا يسقط عنه الحدّ، وهو ضعيف؛ فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين؛ فإنه من أعظم الحرج في الدين.{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].وسيأتي بيان هذا في النحل إن شاء الله.وصبر يوسف، واستعاذ به من الكيد، فاستجاب له على ما تقدّم.قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ}{فتيان} تثنية فتى؛ وهو من ذوات الياء، وقولهم: الفُتُوّ شاذ.قال وهب وغيره: حمل يوسف إلى السجن مقيّدًا على حمار، وطِيف به هذا جزاء من يعصي سيدته وهو يقول: هذا أيسر من مُقَطَّعات النِّيران، وسرابيل القَطِران، وشراب الحميم، وأكل الزّقوم. فلما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قومًا قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم؛ فجعل يقول لهم: اصبروا وأبشروا تؤجروا؛ فقالوا له: يا فتى! ما أحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك، من أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف ابن صفيّ الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحق، ابن خليل الله إبراهيم.وقال ابن عباس: لما قالت المرأة لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني، وأنا أريد أن تسجنه، فسجنه في السجن؛ فكان يُعزّي فيه الحزين، ويعود فيه المريض، ويداوي فيه الجريح، ويصلي الليل كله، ويبكي حتى تبكي معه جُدُر البيوت وسقفها والأبواب، وطهر به السجن، واستأنس به أهل السجن؛ فكان إذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس في السجن مع يوسف، وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه، ثم قال (له): يا يوسف! لقد أحببتك حبًّا لم أحبّ شيئًا حبك؛ فقال: أعوذ بالله من حبك، قال: ولِمَ ذلك؟ فقال: أحبني أبي ففعل بي إخوتي ما فعلوه، وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى، فكان في حبسه حتى غضب الملك على خَبَّازه وصاحب شرابه، وذلك أن الملك عُمِّر فيهم فملّوه، فدسّوا إلى خَبّازه وصاحب شرابه أن يَسُمَّاه جميعًا، فأجاب الخبّاز وأبي صاحب الشَّراب، فانطلق صاحب الشّراب فأخبر الملك بذلك، فأمر الملك بحبسهما، فاستأنسا بيوسف، فذلك قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} وقد قيل: إن الخبّاز وضع السم في الطعام، فلما حضر الطعام قال السّاقي: أيها الملك! لا تأكل فإن الطعام مسموم.وقال الخبّاز: أيها الملك لا تشرب! فإن الشراب مسموم؛ فقال الملك للساقي: اشرب! فشرب فلم يضرّه، وقال للخباز: كُلْ؛ فأبى، فجرّب الطعام على حيوان فنفق مكانه، فحبسهما سنة، وبقيا في السجن تلك المدة مع يوسف.واسم الساقي منجا، والآخر مجلث؛ ذكره الثعلبيّ عن كعب.وقال النقاش: اسم أحدهما شرهم، والآخر سرهم؛ الأوّل بالشين المعجمة، والآخر بالسين المهملة.وقال الطّبريّ: الذي رأى أنه يعصر خمرًا هو نبو، قال السّهيليّ: وذكر اسم الآخر ولم أقيده.وقال: {فتيان} لأنهما كانا عبدين، والعبد يسمّى فتى، صغيرًا كان أو كبيرًا؛ ذكره الماورديّ.وقال القُشَيريّ: ولعلّ الفتى كان اسمًا للعبد في عرفهم؛ ولهذا قال: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ}.ويحتمل أن يكون الفتى اسمًا للخادم وإن لم يكن مملوكًا.ويمكن أن يكون حبسهما مع حبس يوسف أو بعده أو قبله، غير أنهما دخلا معه البيت الذي كان فيه.{قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أي عنبًا؛ كان يوسف قال لأهل السجن: إني أعبّر الأحلام؛ فقال أحد الفتيين لصاحبه: تعال حتى نجرّب هذا العبد العبراني؛ فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئًا؛ قاله ابن مسعود.وحكى الطّبريّ أنهما سألاه عن علمه فقال: إني أعبّر الرؤيا؛ فسألاه عن رؤياهما.قال ابن عباس ومجاهد: كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها؛ ولذلك صدق تأويلها.وفي الصحيح عن أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا» وقيل: إنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجريبًا؛ وهذا قول ابن مسعود والسّديّ. وقيل: إن المصلوب منهما كان كاذبًا، والآخر صادقًا؛ قاله أبو مِجْلَز.وروى الترمذيّ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تَحَلَّم كاذبًا كُلِّف يوم القيامة أن يَعقِد بين شَعِيرتين (ولن يَعقِد بينهما)» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.وعن عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كذب في حُلُمه كُلِّف يوم القيامة عَقْد شَعِيرة» قال: حديث حسن.قال ابن عباس: لما رأيا رؤياهما أصبحا مكروبين؛ فقال لهما يوسف: مالي أراكما مكروبين؟ قالا: يا سيدنا إنا رأينا ما كرهنا؛ قال: فقصّا عليّ، فقصّا عليه؛ قالا: نبئنا بتأويل ما رأينا؛ وهذا يدلّ على أنها كانت رؤيا منام.{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} فإحسانه، أنه كان يعود المرضى ويداويهم، ويُعزِّي الحزانى؛ قال الضّحاك: كان إذا مرض الرجل من أهل السجن قام به، وإذا ضاق وسّع له، وإذا احتاج جمع له، وسأل له.وقيل: {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي العالمين الذين أحسنوا العلم، قاله الفراء.وقال ابن إسحق: {مِن الْمُحْسِنِينَ} لنا إن فَسَّرته، كما يقول: افعل كذا وأنت محسن.قال: فما رأيتما؟ قال الخبّاز: رأيت كأني اختبزت في ثلاثة تنانير، وجعلته في ثلاث سلال، فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منه.وقال الآخر: رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض، فعصرتهن في ثلاث أوان، ثم صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى، فذلك قوله: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أي عنبًا، بلغة عُمان، قاله الضّحاك.وقرأ ابن مسعود: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ عِنَبًا}.وقال الأصمعي: أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابيًا ومعه عنب فقال له: ما معك؟ قال: خمر.وقيل: معنى.{أَعْصِرُ خَمْرًا} أي عنب خمر، فحذف المضاف.ويقال: خَمْرة وخَمْر وخُمُور، مثل تمرة وتمر وتُمور. اهـ.
هكذا قاله النحاة والمفسرون، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة، فإنه زعم أن قوله: ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي: سجنه حتى حين، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو.والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله: ليسجنن، أو من قوله: السجن على قراءة الجمهور، أو على السجن على قراءة من فتح السين.والضمير في لهم للعزيز وأهله، والآيات هي: الشواهد الدالة على براءة يوسف.قال مجاهد وغيره: قد القميص، فإن كان الشاهد طفلًا فهي آية عظيمة، وإن كان رجلًا فيكون استدلالًا بالعادة.
|